تحقيق / رشا ابو رجيلة
ميت غمر تللك المدينة التي تشعر لمجرد وصولك لها وللوهلة الأولى أن جميع سكانها يعملون فى ورش ومصانع الألمونيوم، المنتشرة من مدخل المدينة حتى أضيق شوارعها، لم نقابل أحداً إلا كان يعمل، أو قد عمل بهذه الصناعة ،بدءا من أطفال المدينة الذين يعمل «بعضهم» فى الشتاء ويعمل كثير منهم فى الصيف «بدلاً من اللعب فى الشارع»، ووصولا إلي شيوخ المدينة والطاعنين بالسن جميعهم تغيرت ملامحهم وإكتست بالشقاء الذي يعانونه في تلك المهنه
الوصول إلى أحد المصانع، سواء كان كبيراً أو مجرد ورشة صغيرة، يتطلب السير عبر ممرات وحارات ضيقة.. على مدخل أحد أكبر مصانع الألومنيوم فى ميت غمر يقابلنا صاحب المصنع، ويصطحبنا عبر بوابة صغيرة إلى الداخل، حيث عدد من غرف المصنع أضيئت جميعها بلمبات نيون بيضاء. أسفل الإضاءة يعمل حوالى 10 عمال بلا «كمامات» أو «قفازات»، وقد غطت وجوههم مادة سوداء من مخلفات الصناعة. يشرح لنا صاحب المصنع كيف يتم تشكيل الألومنيوم فى هذه المرحلة، ويوضح لنا أيضاً أهمية أن نلتقط له وعماله صورة فى هذا المكان.
يصمم صاحب المصنع على استكمال جولته معنا، ويشدد بشىء من اللطف على ضرورة أن نلتزم أيضاً بحدود هذه الجولة. نصل الآن إلى غرفة «تقفيل» وتعبئة أوانى الألومنيوم – المرحلة الأنظف فى تلك الصناعة – استعداداً لعرضها للبيع، وهنا يظهر طفل لم يتجاوز عمره الثامنة، تغطى وجهه مادة رمادية، يبتسم للكاميرا أثناء محاولتنا التقاط صورة له.. لا يفسد هذه الصورة إلا يد صاحب المصنع التى غطت وجه الطفل بالكامل قائلاً: «مفيش داعى نصور العيال دى.. دى عيال بتسترزق عندنا». نسأله عن كمامات العمال يرد: «موجودة بس العمال بتزهق منها وتقلعها».
الجولة المشروطة داخل المصنع انتهت خلال 15 دقيقة، نتحجج بأن الوقت لم يكن كافياً لالتقاط صور جيدة، يمنحنا دقائق أخرى ثم يمل من الانتظار فيتركنا وحدنا لأول مرة داخل المصنع. على بعد خطوات يفتح أحد العمال باباً صغيراً يخفى وراءه غرفة مساحتها حوالى «3 أمتار×3 أمتار»، بها فتحة تهوية واحدة، ويعمل بها حوالى 9 عمال، بينهم 6 أطفال تتراوح أعمارهم بين السابعة والثانية عشرة، المادة الناتجة عن «تلميع» الأوانى تغطى جدران الغرفة بكثافة، بينما يتصاعد غبار مادة التلميع ليغطى لمبات الإضاءة.
على إحدى الماكينات يعمل أطفال غطت المادة الناتجة عن التلميع وجوههم وأيديهم، فتحولت إلى اللون الأسود، هؤلاء يعملون فى هذا المكان منذ التاسعة صباحاً وحتى الثامنة مساء مقابل جنيهات قليلة، بينما توقف معظمهم منذ عام أو عامين عن الذهاب إلى المدارس.
يعود صاحب المصنع إلينا مرة أخرى، يرانا داخل غرفة «التلميع»، يخبرنا بحزم أن زيارتنا انتهت هنا قائلاً: «خلاص بقى كفاية عليكم كده».
تغير وجه ميت غمر منذ 46 عاماً من مدينة زراعية معظم سكانها من المزارعين وبعض الموظفين إلى بؤرة لصناعات صهر وتشكيل أوانى الألمونيوم، فتغير شكل الناس وتخضبت وجوههم، شيوخاً وشباباً وأطفالاً، باللون الأسود، بينما تتحدث مع مدير الإدارة الصحية بالمدينة الدكتور أحمد الطوبجى عن مخاطر الصناعة، يحكى لك كيف ساعده عمله فى ورش الألومنيوم عندما كان صغيراً على استكمال تعليمه والالتحاق بكلية الطب.
المدينة التى سيطر عليها الطابع الصناعى تتحكم فى 60% من صناعة أوانى الألومنيوم فى مصر، فيما يوجد بها حوالى 400 ورشة تشكيل وتلميع يعمل فيها من 40 إلى 50 ألف عامل، وفقا لتقديرات الجمعية التعاونية لصناعة الألومنيوم.
فى فترة الغداء يتحرك عمال الألومنيوم فى شوارع المدينة بحثاً عن الهواء النقى ووجبة سريعة بعد ساعات من العمل داخل ورش مغلقة الأبواب والنوافذ، بينما تسعى «التوك تيكة»، سيارة محلية الصنع، بصوتها المزعج فى شوارع ميت غمر تحمل العمال والمواد الخام التى تستخدمها الورش لصناعة أوانى الألومنيوم، و«التوك تيكه»، وفقا لمخترعها، «صاج حديد وأربع عجلات يحركها موتور ماكينة رىّ».
فى إحدى الطرقات الرملية بمنطقة أرض الجزيرة، حيث تنتشر ورش تلميع الألومنيوم، تجر «هناء »، وهي إحدي النساء البالغه28 عاماً، ابنها «أحمد» البالغ من العمر تسع سنوات، فى محاولة لإقناعه بضرورة العمل فى إحدى الورش، يفلت «أحمد من يد أمه ، ثم ينهمر فى البكاء، لا تملك الأم الكثير لإقناعه، تجره مجدداً حتى تصل إلى الورشة، وهناك تحاول أن تسترضى صاحب الورشة لإعادة ابنها للعمل، يكف «أحمد » عن البكاء ويقف صامتاً فيما يقول الرجل لوالدته: «ابنك شقى، أنا مبعرفش أشغله»، تلخص الأم أسباب إصرارها على عمل «أحمد » فى تلك السن: «يعنى أوديه المدرسة ويتعلم وياخد شهادة ويقعد جنبى فى البيت، ولا أعلمه صنعة أحسن تنفعه ويكسب منها من صغره؟»، لكن الأمر لا يتعلق فقط بوجهة نظر الأم فى مدى جدوى التعليم فى مصر، بل هناك أسباب اقتصادية تدفعها لتشغيل «أحمد » وأخوته الأصغر سناً فى المستقبل، تقول «هناء »: «كان لازم يخرج من المدرسة، فرصته فى الشغل أحسن من والده».
ما قالته «أم أحمد» صحيحاً وفقا لشروط العمل المتبعة فى المدينة، فمعظم أصحاب الورش والمصانع يسمحون للأطفال بالعمل، لأنهم يؤدون الأعمال نفسها التى يؤديها العمال الأكبر سناً مقابل أجر أقل، ما عدا مرحلة تشكيل الأوانى التى تحتاج عمالاً أكثر خبرة وتدريباً.
وربما لو إلتقينا بعد عام أو عامين بأحمد هذا الطفل الباكي الرافض للعمل لوجدناه فخورا بعمله وبأجرة الذي يفوق كثيرا من أجر حملة المؤهلات
من جانبه يحاول رمضان صميدة، صاحب ورشة تلميع ألومنيوم، أن يوضح أسباب قبوله عمل أطفال فى ورشته: «القانون بيقولك متشغلش عيال صغيرين، والقانون ميعرفش الناس عايشه إزاى؟! ميعرفوش إن الأمهات بييجوا يتحايلوا علينا عشان نشغل العيال، وإن الأم اللى بتخرج ابنها يشتغل بتبقى محتاجة الخمسين جنيه اللى هيرجع لها بيها أخر الأسبوع، يعنى أدى الست قرشين وأمشيها، ولا أخد الواد أعلمه صنعة تنفعه وتنفع عيلته، بدل ما يتعلم وياخد شهادة ويخرج يقعد بيها فى البيت، لا لاقى يتجوز ولا ياكل حتى».
لكن «صميدة» يظهر لنا بعد مناقشة طويلة معه السبب الحقيقى لاستخدامه أطفالاً فى ورشته: «أنا كمان ببقى محتاج العيال الصغيرين فى الشغل، بيشيلوا حاجة ولا بيناولوا حاجة، ومنهم كمان بيتعلموا وبياخدوا فلوس على قدهم، لكن لو جبت حد كبير معدى 16 سنة زى القانون ما بيقول يعمل الشغلانة نفسها هياخد ضعف الأجر 3 مرات تقريباً».
مخالفة قواعد السلامة المهنية ليست مرتبطة فقط بالورش الصغيرة، فالمصانع الأكبر حجماً والأكثر شهرة، لا تحترم تلك القواعد، حيث تختفى الكمامات ومنافذ التهوية، بالإضافة إلى عمالة الأطفال التى لا يستغنى عنها أى مصنع بالمخالفة لقانون الطفل رقم 12 لسنة 1996، الذى يحظر تشغيل الأطفال قبل بلوغهم 15 عاماً، ويحظر أيضاً عمل الأطفال فى مهن تعرض صحتهم أو سلامتهم أو أخلاقهم للخطر، ولا يسمح القانون بعمالة الأطفال إلا فى المهن الموسمية التى لا تؤثر على فرصهم فى التعليم»..
وفى محاولة للوصول لعدد أو نسبة عمالة الأطفال فى ورش ومصانع الألومنيوم فى المدينة، زرنا «مكتب تفتيش عمل ميت غمر»، هناك بدا الموظف المسؤول عن حملات التفتيش على الورش والمصانع، متعجباً من السؤال، حيث إن عمالة الأطفال فى هذه الورش بالنسبة له كانت أمراً بديهياً لا تحتاج لسؤال أو، فرد: «كل العيال بيشتغلوا فى الصيف فى تلميع الألومنيوم بعد ما يخلصوا امتحاناتهم، الورش الصغيرة بيبقى فيها على الأقل 6 أطفال، وبصراحة إحنا بنشوف أنه يتعلم صنعة أفضل من إنه يخرج يلعب فى الشارع وتفسد أخلاقه، فى الشتاء العمالة دى بتقل شوية عشان المدارس والتعليم بيبقى أهم».
الموت بسبب لقمة العيش
حرر الموظف، الذى تحفظ على ذكر اسمه، 54 محضراً لورش بها عمالة أطفال بشكل مستديم، طوال السنة، ويضيف الموظف: «من المفترض أن تلميع الألمونيوم من الأعمال الخطرة، بسبب الرايش الأسود الذى ينتج أثناء التلميع، وعمالة الأطفال ممنوعة فى الأعمال الخطرة بموجب القرار الوزارى رقم 118 لسنة 2003، الذى ينص على أن من يرتكب هذه المخالفة يدفع غرامة لا تقل عن 500 جنيه ولا تتجاوز 1000 جنيه، ويتم رفع دعوى قضائية على صاحب المنشأة، لكننا أحيانا ننفذ (روح القانون) وننذر صاحب المنشأة فقط، لأننا نعرف حالة الأسرة التى تضطر لأن يخرج ابنها للعمل».
عدد قليل من أصحاب الورش فى مدينة ميت غمر بدأوا استشعار خطورة تلك المهنة، «حمودة النمر» أحدهم، حيث كان يمتلك ورشة للتلميع لكنه قرر إغلاقها لتجنيب نفسه وعماله الأضرار التى قد تسببها لهم تلك المهنة. يقول «النمر»: «الأزمة إن أصحاب الورش والمصانع مش بيتعمل لهم توعية بخطورة مرحلة تلميع الألومنيوم على صحتهم وصحة عمالهم، وما يعرفوش قيمة إجراءات الأمان اللى بتلزمهم بيها مكاتب الصحة وبيعتبروها إنها بتحملهم ما لا يطيقون».
فى مكتب الأمن الصناعى بمنطقة ميت غمر، بدا الموظف المسؤول متحفظاً لأبعد مدى عندما سألناه عن مدى تطبيق قواعد السلامة المهنية فى مصانع ميت غمر، لكنه وافق على الحديث إلينا، شريطة عدم ذكر اسمه، لأنه كان شريكاً فى إحدى ورش التلميع قبل إغلاقها، يقول: «أغلقت الورشة بنفسى بسبب خطورتها على صحة العاملين، نستخدم فى التلميع مادة اسمها (الجماطة)، وهى مادة كبريتية، نستخدمها بواسطة فرشاة لتفتيت مادة (أكسيد الألومنيوم)، وهى طبقة موجودة على سطح المعدن لتلميعه، الاحتكاك بين المادة الكبريتية وأكسيد الألومنيوم ينتج مادة وبرية سوداء كثيفة تسمى (الغبار)، تحيط بالعامل والماكينة أثناء عملية التلميع». ويضيف: «لذا تضع أغلب الورش والمصانع ماكينة التلميع فى مكان مغلق تماماً ومنفصل عن الورشة أو المصنع.. فى ذلك المكان الضيق المغلق يجلس العامل على الماكينة ومعه طفلان أو ثلاثة يقفون بجانبه يتعلمون منه ويساعدونه، ويتعرضون معه لـ«الغبار».
ويضيف: «العامل يتعرض لـ(الغبار) على الأقل ثمانى ساعات يومياً بشكل مكثف، لأنه لا توجد أى فتحات للتهوية، وهو ما يجعل وجهه مغطى تماماً بطبقة سوداء كثيفة تسبب له البثور الجلدية بسبب انسداد مسام الوجه». وينصح مسؤول الأمن الصناعى بإضافة شفاطات تهوية ومكثفات ومبردات لأماكن العمل لتقليل تعرض العامل لـ«الغبار»، وارتداء العمال لكمامات طبية مخصصة لذلك، وليست كمامات رخيصة كالتى يشترونها ولا يرتدونها.
أوضاع عمال ورش تلميع أوانى الألومنيوم فى مدينة ميت غمر، لفتت انتباه وزارة البيئة ما دفعها لإعداد دراسة بالتعاون مع وزارة التعاون الدولى البريطانية فى إطار برنامج «SEAM» لدعم التقييم والإدارة البيئية، وتناولت الدراسة الظروف المهنية لهؤلاء العمال وسبل تطوير تلك الورش لتقليل آثارها السلبية على البيئة والعاملين فيها من خلال إضافة تعديلات إلى ماكينات تلميع الألومنيوم لتقليل ما يصدر عنها من مخلفات صناعية. قالت الدراسة «إن معظم المسابك التى تقوم بإعادة تدوير الألومنيوم فى المدينة لا تمتلك أنظمة تحكم مناسبة أو تهوية عند عملية صقل الأسطح، وبالتالى توجد مستويات عالية من أتربة المعدن يتم إطلاقها فى جو العمل وتؤثر فى الماكينات وفى جودة المنتجات وعلى السلامة والصحة المهنية للعمال».
وأظهرت الدراسة التى أجريت على مصنعى «طيبة» و«مطر» للألومنيوم فى ميت غمر خلال عام 2004، أن «جميع ماكينات الصقل والصنفرة تخرج مخلفات تحتوى على مستويات عالية من الأتربة المعدنية»، وأضافت: «أن جو العمل كان مليئاً بترابة الألومنيوم وحبيبات صغيرة عالقة، وكذلك انبعاثات، فى ظل عدم توافر أى أنظمة للتهوية على الإطلاق».
وذكرت الدراسة، فى باب مخصص للآثار الصحية لأتربة الألومنيوم، «أن العمال فى ورش التلميع يتعرضون لمخاطر يسببها الاستنشاق المتكرر لأتربة الألومنيوم، بالإضافة إلى فقدان السمع نتيجة التلوث الضوضائى داخل الورش».