بقلم / احمد دويدار
كان فصل الربيع في مصر لا يُعلن قدومه رسميًا إلا إذا صدحت أم كلثوم بصوتها على موجات الراديو، في أمسية شم النسيم، حيث الزهور تتفتح، والقلوب كذلك. حفلات أم كلثوم لم تكن مجرد طرب؛ بل كانت كانت طقسًا من طقوس الحياة، يحتفل به المصريون كما يحتفلون بالربيع، بالشمس، بالحب، وبالوطن.
منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى أوائل السبعينيات، اعتادت كوكب الشرق أن تُقيم حفلاتها الكبرى في مواسم الربيع، وغالبًا ما تزامنت مع شم النسيم، فتكون الأغنية الطربية الطويلة أشبه بزهرة تتفتح على مهل، في حضرة جمهور لا يتنفس إلا على إيقاع صوتها
“أنا فدائي فكل لحظة حب”
هكذا غنت أم كلثوم، فكان الحب في زمنها جزءًا من هوية الوطن، والربيع ليس فقط موسم الطبيعة، بل موسم المشاعر أيضًا. كانت قاعة الأوبرا القديمة تتزين في شم النسيم لاستقبال الجمهور، وغالبًا ما تسبق الحفلات بحملة دعائية ضخمة على صفحات الجرائد:
“أم كلثوم تغني ليلة شم النسيم – الخميس المقبل – أغنية جديدة من تأليف أحمد رامي وألحان رياض السنباطي.”
وفي أحياء القاهرة وجميع مدن المحروسة ، كان الناس يجتمعون حول الراديو مساء العيد ليستمعوا إليها وكأنهم في محراب مقدّس، يرددون الكلمات، ويتنهدون مع كل “آه” تمرّ عبر الأثير.
ارتبطت بعض الأغاني تحديدًا بمزاج الربيع وبهجة شم النسيم، مثل “أمل حياتي”، “فكروني”، و”أنت الحب”، التي كانت تذاع مرارًا في هذا الموسم.
لا عجب أن بعض الأزواج اختاروا يوم شم النسيم لخطوبتهم فقط لأن أم كلثوم ستغني تلك الليلة!
حتى الطبيعة كانت تشارك في هذا الطقس الفريد. الورود تتفتح، والنيل يلمع تحت أضواء المدينة، والقلوب تخفق بلحن جديد. لم تكن حفلات أم كلثوم مجرد موسيقى، بل كانت تشبه زهور الربيع: تفتح ببطء، وتبقى رائحتها في الذاكرة طويلًا.
في كل شم نسيم، يتجدد الحنين لذلك الزمن. ربما لم نعد نذهب إلى حفلات الست، لكننا لا نزال نضعها في الخلفية، ونحن نلون البيض، أو نجلس في الحدائق، وكأننا نُحيي تقليدًا روحيًا، نؤمن فيه أن الربيع لا يكتمل إلا بصوتها.
شم النسيم لا يُغنى إلا بأم كلثوم، والربيع لا يُروى إلا بصوتها .