ذاكِرَتُنا عِبارَة عن مَقاعِدْ لِمَسْرَحْ مُلُوكي فاخِرْ !!!

بقلم: رانيا نائل
تلْكَ الذَّاكِرَة التي تَخْتَزِنْ لكل شيء، ولا تَقْوى على نِسْيانِ من جَعَلَتْهم يَجْلِسونَ في مُقَدِّمة قُلوبِنا ، واحْتَلُّوا مَرْتَبَة الصَّدارةِ فيها ، نَمْنَحُهم أرْقى المَقاعِدْ ، ونُرَحِّبُ بِهم وكَأنَّهم ملوك على عَرْشِ قُلوبِنا ، هؤلاء لا نَسْتَطيعُ أن نَمْنَحَهم إلا أرْواحنا وما طابَ لهم من لذيذ نَبيذِنا الفاخِرْ ، ونُقَدِّمُ لهم على طَبَقٍ من ذَهب التَّجَوُّلَ في ممْلَكَتِنا وفي أجْمَلِ بَساتيِنها …
فما نَفْعَلُه مَع هؤلاء هو فقط ماُ اعتادت عليه أرْواحُنا أن تَهْديه ، رُغْمَ كُلُّ الأشْواك التي كانت تُلْقى بِها ، ولا تَفْعَلُ سوى ما يَليقُ بِأرْواحٍ نَقِيَّة نادِرة الوُجودِ على هذه الأرْض …
ليس سَذاجَةً !!!! ولكن طيبُ الأصْلِ الذي خُلِقَ فينا مُنْذُ لحظة ولادتنا على هذه الأرْض هو من يَجْعَلُنا مُخْتَلِفون في طَبْعِنا ومَشاعِرُنا ، ومُتَفَرِّدون في نَقاءِ أرْواحِنا ..
في الحقيقة نحن لا نختار من نريد أن نُجالِسُهم على مقاعِدِ ذاكِرَتِنا ، ولكن القدر هو من يختار لنا ذلك !!!
عندما نعبُرُ شريطَ حياتِنا ، نَتَعَثَّرُ بِأرْواحٍ كثيرة على هذه الأرْض ، منهم منذ أوَّلِ لحظَةٍ لقاءٍ لنا تشعر وكأنك تعرفه منذ عشرة سنين على الرغم من أنك لم تلتقي به ولا مرة في حياتك ، إلا أنَّ هُناكَ سَعادَةٌ غامِرة وراحَةٌ تَشْعُرُ بها عند لِقائِهم ووقت حديثكَ معهم ، وأحياناً هناك أرواح تتعامل معها وتعيش معها ولكن تشعُرْ بالغُرْبة والفراغ وقت حديثك معهم ، تَشْعُرْ أنهم مُخْتَلِفون اختلافاً كُليَّاً عن شَخْصِيَّتِك ومسْتَوى تَفْكيرِك …
هؤلاء الذين نمنحهم أرواحُنا، هم في الحقيقة لا يَعْلَمون حَقيقَة ما قَدَّمنا لَهم ، وما قيمة ما نمنحه لهم إلا عندما يَفْقِدُ تلك الروح التي كانت مصدر سعادته وراحته التي يَفْتَقِدُها في حَياتِه ، وأحيانا يكونُ بِسَبب كَلِمَةٍ صغيرة تَفَوَّه بها …
في لَحْظَة ينهدم برج الوصل الذي كان قائماً بينكما فقط لِطَمَعِه بأن يَمْتَلِكَ روحَكَ كُلِّها وعدم اقتناعه بقرب جُزْءٍ منها …
هناك أشخاص في الحقيقة مهما بلغت روعتهم إلا أننا لا نستطيع أن نُقَدِّمَ لهم سوى طبق الصداقة المُخْلِصة ، الوفية في أخلاقِها وطَبِعِها …
فمقاعِدُ ذاكِرَتُنا مُقَسٍّمَة إلى أجْزاء :
الجُزْء الأول منها هم لمن يَحْتَلُّونَ القَلْبَ ويَدْخلونَ إليه من دون أن يَسْألونا ولا حتى يَسْتأذِنونا بالدخول …
والجُزْء الثاني منها لمن يَحْتَلَّ مَرْتَبة الصَّدارة في الصَّداقة الأخوية الصادقة ومن هم في الروح عالقون وأحبابِ الروح الذين لا نستطيع الاستغناء عنهم إلا بِمَوْتِنا …
والجُزْء الثالث منها هو لمن يَحْتَلُّ مَرْتَبَة مقاعِدُ النِّسْيان التي دُفِنَت مع صَفحات القدر، ففي هذا الجزء تكون المقاعد تَخُصُّ مَقْبَرَةِ ذاكْرَتُنا ، نزورها سَهْواً من بين الحين والآخر ، لِنَقْرأ الفاتِحَة على ذِكْرَياتٍ دُفِنَت في مَقْبَرَةِ الذِّكْرَيات عندما تَعْبُرُ الذِّكْرى شَريطَ ذاكِرَتِنا ، التي أصْبَحَت ذِكْرى لِماضٍ لن يَعود …
لَنَدْفِنَ شَخْصاً في مَقْبَرَةِ الذَّاكِرة ، علينا أن نَتَجَرَّدَ من ضَعْفِنا أمامَ حُبِّه ، وعلينا أن نَمْلِكَ الشَّجاعَة لِمُواجَهَةِ جُثَّةِ مَوْتٍ على قيد الحَياة …
الجُزْءُ المُتَبَقِّي المُتَعَلِّق بالنِّسْيان هو أغْلى قاعات الذَّاكِرة التي لكي تَدْخُلَها عليك أن تَدْفَعَ مبالغَ كَثيرة من روحِكْ ومن ذاتك ومن ذكرياتك ومن ماضيك لكي تَسْتَطيعَ الدُّخول !!!
فكثيراً ما نَدَّعي النِّسْيان ونقول بأننا نَسينا أشْخاص احتلوا أولى المَقاعِدِ في ذاكِرَتِنا ، ولَكِننا في الحَقيقة لم ننساهم ، نحن فقط شَغَلْنا أنْفُسَنا عنهم بأِشياء في حَياتِنا ، وعند النِّسِيان ندَّعَيْ اهتمامُنا الزائِدُ بتلك الأشْياء التي لم تَكُن يَوْماً من ضِمْنِ أوْلَوْيَّاتِ اهِتِمامُنا ، ونبدأ نَبْحَثُ عن أشْياءَ أهْمَلْناها ، وكذلك أرْواحُنا يَزيدُ اهِتِمامُنا بها ، فقط لَنُخْفي مَقْعَداً كان يَحْتَلُّ أولى المراتب في ذاكِرَتِنا ، وأصْبَحَ الآنَ آخِرُ مَقاعِدُ قاعَةِ ذاكِرَتُنا …
لِتَنْسى شَخْصاً عَلَيْكَ أن لا تتعَمَّقَ في تَفاصيلِه ، ولا حتى في اهتمامه ، ولا حتى في مَشاعِرُكَ تِجاهُه ، بل عَلَيْكَ أن تَنْتَبِهَ في خُطُواتِكَ إلى ذاكِرَتِه ، بأن تَحْفَظَ خَطَّ الرَّجْعَةِ
في أن تَسْتَغْني عن جُزْء من روحِكْ وجزء من أحْلامِك وجزء حتى من نَفْسِك الذي يَشْغَلَ حَيِّزَ من تَحِبّ فقط لكي لا تتألم أكثر مما تَسْتَحِقّ ، ولكي تتنفس الحياة ولو لِدقائق قليلة ….
علينا أن نُبِقِيَ ولو مَسافَةً صَغيرَةً بيننا، لكي نَتَجَنَّبَ ألَماً قد يَكونُ مُصاحِباً لأتْفَه وأبْسَطِ الأشْياء ، كَرِساَلَةٍ أو مُكالَمَةٍ هاتِفِيَّة لم يَتِمُّ الرَّدُّ عليها …
أن تَجاوَزْنا مع أنْفُسِنا مَرْحَلَةِ صَغائِرِ الأشْياء، سَنَتَجاوَزَ أعْظَمِها ….

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *