بقلم / دينا عبد القادر الحلو
في كثير من الأحيان نشعر بالحزن والألم والصدمة من بعض المواقف التي تصدر من أصدقاء وأحباب لنا لم نكن ننتظر منهم كلمة ما في موقف ما!! ، وكثير منا لا يستطيع أن يعبر عما يجيش بصدره من حزن وتأثر ويكتفي بالصمت والابتعاد!! ، في حين أن هناك فئة أخرى من الأشخاص – لديهم دائما الرد المحنك الجاهز في كل وقت وحين- وهؤلاء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون- أما هؤلاء ذوى الأحاسيس المرهفة والمشاعر الرقيقة فيكتفون بالصمت الذي يخفي تحته غصة ألم وحزن كبير وليس باستطاعتهم ابدا مصارحة الطرف الاخر بما تعتمل به نفوسهم، فيرون في المصارحة والمكاشفة والعتاب نوعًا من التقليل من كرامتهم، لذا فيكتفون بالابتعاد في صمت لكي يلملموا مشاعرهم المبعثرة من الحزن والألم!!.
قرأت يومًا في أحد مواقع الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي: أن الموسيقار الموهوب “بليغ حمدي” أرسل خطابًا للعندليب الأسمر “عبدالحليم حافظ” يعاتبه فيه ويخبره أنه يشعر بالحزن والأسى لما صدر منه من “مزحة” أطلقها “العندليب” أمام الناس – في أحد السهرات التي كانت تجمعهم سويًا- وأنه شعر بحزن عميق من “حليم” حيث لم يكن يتوقع منه ابدا هذا الجرح الغائر الذي سببه له!!، وطلب “بليغ” من “حليم” ألا يتعامل مع مشاعره مرة أخرى بهذا الاستخفاف واللامبالاة -والاستهانة بحبه وتقديره العظيم له الذي لا يمكنه أن يفهمه- وأكمل “بليغ حمدي” خطابه لحليم قائلا “برجاء عدم الاتصال بي بغرض الاعتذار الايام التالية حتى أصفو لك تمامًا وأستطيع الحديث معك مرة ثانية!” ،
موقف “بليغ حمدي” الرقيق يمثل أيضا فئة ونوعية أخرى من الاشخاص الذين يعبرون عن حزنهم بطريقة خطية مكتوبة بدلا من العتاب المباشر وجهًا لوجه والذي لا يتقنه الكثيرون! فهناك الكثير من الاشخاص الذين لا يمتلكون الشجاعة الكفاية لمواجهة مثل تلك المواقف الحساسة ولا يملكون الجرأة للتعبير عن حزنهم وجهًا لوجه!! فقد تفيض مشاعرهم ويشعرون بالحرج والجرح لكرامتهم وتذرف عيونهم الدموع جزافًا !! فرفقًا بهم!!
أعجبني كثيرًا رد فعل “بليغ حمدي” وخطابه الرقيق الذي يوضح كيف كان انسانًا رقيقًا مرهف المشاعر- عز عليه ما فعله به صاحبه أمام الناس- وكيف أنه لا يحب أن يكون موضع إلقاء النكات أو السخرية حتى لو على سبيل “الدعابة”! كثير منا يخفي حزنه ويكتم ألمه في بعض المواقف مع أحباب لم نكن ننتظر منهم الا كل حب ودعم ومساندة! فعلا “بليغ حمدي” استطاع أن يطبق قاعدة “أبلغ من يجرحونك بما فعلوا حتى يتوقفوا عن الاستمرار في السخرية منك او التقليل من شأنك” ،ولكن من منا يقدر أو يمتلك شجاعة بليغ!! – حتى لو جاء عتابه كتابيًا وليس وجهًا لوجه – كلما كان حبنا ومعزتنا وتقديرنا لشخص ما ، كلما زادت فرط حساسيتنا لما يقوله وما يفعله تجاهنا!! عندما نحمل لشخص ما كل الحب والاعزاز والتقدير، ننتظر منه أيضا أن يبادلنا نفس المشاعر ولا ينتقص منا خاصة أمام الناس!!!
حقًا إن “الكلمة الطيبة صدقة”، ولكن ليس كل الأشخاص لديهم القدرة على ذلك ، فهناك فئة من الناس يتباهون بطول ألسنتهم ويفتخرون بفظاظة أقوالهم –مدعين أنهم صرحاء وما في قلوبهم دائما على ألسنتهم –ولا يستطيعون المجاملة ولا ادعاء ما ليس في قلوبهم!! وهل قلوبكم سوداء لهذه الدرجة! هل قلوبكم لا تحمل الا الكراهية والغل والحقد والحسد!! فسرعان ما تترجم ألسنتكم ما تعتمل به قلوبكم ونفوسكم من سواد!! عافانا الله واياكم.
يا ليت كل من نقابلهم يحسنون القول ولا ينطقون الا بكل ما هو طيب وجميل ، ليتهم يعلمون أن بكلمة واحدة تتحسن معنويات ونفسية شخص ما، قد تبعث كلمتك الطيبة في نفس شخص ما كل الحب والتفاؤل –قد تحيي كلمة ما أملا قد مات واندثر ! قد تولد كلمة طيبة في نفس انسان ما كل التفاؤل والحماس وتنعدل نفسيته طوال يومه! يقول الله عز وجل في محكم تنزليه “وقولوا للناس حسنا” ، أمر وتكليف من الله عز وجل بحتمية الكلمة الطيبة والقول الحسن ، أن لم تستطع قول كلمة طيبة “فلتقل خيرا أو لتصمت” ، فكل ممن نقابل في حياتنا اليومية يحارب في جبهته ولديه معاركه الخاصة التي يخوضها يوميًا ، فلا تزد “هم” من تقابل في يومك بكلمة سيئة أو عبارة جارحة بحجة “الدعابة” أو أنك صريح وما في قلبك على لسانك ، لا يا عزيزي فهناك فرق بين الصراحة والوقاحة وبين الأدب وقلة الأدب ، بين اللياقة والذوق والاحساس وعدمهم!!
قد يبدو لك انسان ما متماسكاً بشوشًا ضحوكًا وكأن لا شيء يهمه في هذه الحياة وكأن لا شيء يعنيه وأنه لا مشاكل لديه ولا أحزان ولا هموم ، ولكن ما يدريك بما به وبما يعانيه ، فجميعنا صناديق مغلقة لا يعلم ما بها الا الله عز وجل ،
يقول دكتور مصطفى محمود “لو اطلع كل منا على قلب الاخر لأشفق عليه”.
الكلمة الطيبة تدل على مدى رقي الانسان وعلى مدى تربيته وعلى مدى نبله وثقافته ، كما تدل أيضا كلماته التي ينتقيها من قاموس مفرداته على مدى أدبه وعلمه وتدينه ونشأته ، هناك قلوب جميلة رقيقة تنتعش بكلمة وتفرح بكلمة وتسعد بمجاملة رقيقة وترتفع معنوياتها بكلمة جميلة وتحلق في السماء بكلمة وتنطلق وترفرف وتفرح بكلمة، وفي المقابل أبضا هناك قلوب رقيقة هشة تحزن بكلمة وتحبط بكلمة وتهبط معنوياتها بكلمة بل تمرض بكلمة وتموت بكلمة!!
“أتعرف ما معنى الكلمة؟
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمه
وقضاء الله هو كلمه
الكلمة لو تعرف حرمه زاد مزخور
الكلمة نور ..
وبعض الكلمات قبور
وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان بين نبي وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة .
عيسى ما كان سوى كلمة
أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم ..
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية
إن الرجل هو كلمة،
شرف الله هو الكلمة”
بهذه الكلمات العبقرية المبدعة في مسرحية “الحسين ثائرا” لخص الأديب عبد الرحمن الشرقاوي معنى وقيمة الكلمة في حياة البشرية، فالكلمة الطيبة لا تكلف صاحبها شيئًا ، بل تؤلف بين القلوب وتشرح الصدور وتفرح المهموم وتفرج هم المكروب وتسعد كل محزون! وهؤلاء الذين لا ينطقون الا بكل ما هو طيب وجميل تهواهم القلوب وتعشقهم الافئدة وتأسر بهم الألباب وتلتف حولهم العقول ! أما هؤلاء الذين يتباهون ويفتخرون بسلاطة وطول ألسنتهم وكلماتهم “الدبش” تتجنبهم العقول الراقية وذوى القلوب الرقيقة المرهفة وذوى المشاعر النبيلة والأفئدة الرقيقة وذوى القلوب الرحيمة ، فلا يطيقون صحبتهم ولا يتحملون رفقتهم ويتحفظون في الحديث معهم بل وينأون بأنفسهم عن الخوض معهم في أي حديث !! فتعسًا لهم!!!
إن العطاء ليس مالاً فقط، وإنما نحفظُ ماء الوجوه، ونُطيب الخواطر، ونُراعي الكرامات، فإن إراقة ماء وجه إنسان كإراقة دمه وبالأخلاق الرفيعة ، وبالصبر الجميل ، وبحسن الكلام وبالصَّمت الأنيق ، وبالتعاملات الراقية نستطيع أن نملك القلوب “
كونوا سفراء للكمة الطيبة
(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ)
اترك تعليقاً