بقلم / دينا عبد القادر الحلو
لعلك عزيزى القارئ تتعجب من العنوان ،ولكن لا داعي للعجب فهو عنوان المسرحية التي انتهيت توا من قراءتها للكاتب الكبير على أحمد باكثير-
ولعل فترة الحظر جعلتنا نعود للقراءة وللكتب الورقية التي كنا قد نسينا ملمسها من كثرة تعلقنا بوسائل التواصل الإجتماعي الحديثة
هذه المسرحية استعرتها من مكتبة الكلية قبل شهرين ،وظلت عندى حبيسة الادراج حتى عزمت على مطالعتها وقراءتها خاصة اننى لا أذكر اننى قد قرأت من قبل للكاتب والشاعر الكبير علي احمد باكثير!!
وبالفعل عكفت على قراءتها وانتهت من قراءتها في غضون يومين وتدور قصة المسرحية حول الدكتور حازم الذي يعمل طبيبًا وله عيادة خاصة ويعمل بجد واجتهاد ولكنه يبتلي بعائلته المسرفة المبذرة
فوالده شريف بك على المعاش ولديه أطيان ؛ توفت زوجته تاركة له حازم فيتزوج بأخرى وهى حكمت هانم التي أنجبت له عباس وليلي وإحسان
ومن أول المسرحية التي تقع في سبعة مناظر/مشاهد يتبين لنا مدى حب الدكتور حازم لعائلته وارتباطه بهم وحرصه على مصلحتهم وإخلاصه الشديد ووفاءه لهم على الرغم من تبذيرهم واسرافهم ؛ فهو يقوم كل شهر بإعطاء راتبه بالكامل ودخل عيادته عن طيب خاطر لوالده ليساعده في أعباء المعيشة ولا يدخر وسعًا في مساعدة والده بكل كل يملك كما تبين لنا أحداث القصة، ولا يبخل أبدا بما يملكه على والده وأسرته على الرغم من تبذير زوجة ابيه حكمت هانم وفساد أخلاق اخوه غير الشقيق عباس إلا أنه لا يترك فرصة للاصلاح وتقديم النصيحة والمشورة.
الكاتب الكبير علي أحمد باكثير يصور لنا بقلمه الرشيق كيف يكون الأبن البار الذي لا يجد غضاضة في إعطاء كل ما يملكه من دخل شهري لوالده على الرغم من مقدرة الأب المالية ومن وجود معاش ثابت له وايجار لفدادين يملكها، إلا أن الابن البار دكتور حازم والذي يشعر بالمسؤولية الكاملة نحو أسرته لا يرفض لوالده طلبًا وفي أول مشهد في المسرحية ذهب يسلم راتبه لبيومي افندى- باشكاتب الأب -ولعلك عزيزى القارئ تتعجب من مفردات(بك وافندى وباشكاتب)ولكن يظهر أن المسرحية قد تم تأليفها قبل ثورة يوليو التي جاءت لتمحو هذه الألقاب.
نعود لإحداث قصة المسرحية؛دكتور حازم خاطب لفتاة تدعى (ناهد) ووالدها (صبري افندى) كان يتعجله في إتمام الزواج لانه قد مر على الخطبة أكثر من عام فأراد الدكتور حازم أن يقطتع جزء من راتبه يدخره لكي يتمم الزيجة ؛ وأخبر والده فعلا عن نيته في توفير جزء من راتبه للزواج ولشراء ملابس جديدة له ولهدية لخطيبته والباقي يعطيه لأبيه ولكن الأب شريف بك ما كان منه إلى أن سخط بشدة على هذا التصرف واتهم ابنه بالتقصير والنكران والجحود تجاهه ونحو أسرته واتهمه بأنه ينحاز لحماه وينصاع له وينفذ أوامره في حين يقدم العصيان لوالده مما دفع دكتور حازم بالدفاع عن نفسه نافيًا كل هذه التهم عن نفسه بأنه لا يدخر وسعا في مساعدة والده ولا يألو جهده في توفير كل ما يأتي له من دخل لمساعدة أبيه واسرته وأفصح له دكتور حازم عن ما تعتمل نفسه من ضيق وكدر بسبب تبذير زوجة أبيه وأخيه غير عابئين بتضحيات دكتور حازم وايثاره لهم عن نفسه بينما أخوه عباس يرتع في الأرض فسادًا ويرتاد الحانات والقمارات وسلوكه غير قويم -ولكن الأب شريف بك لم يلتفت لما يقوله دكتور حازم بل أصر على دعواه ومزاعمه أن أسرته ليست مبذرة وأن من حقه على ولده بعد أن رباه أن يجد منه يد العون والمساعدة في كبره فعرض عليه دكتور حازم أن يتولى زمام مصاريف البيت وشؤونه وأن يقوم هو بتوزيع الأموال في مسارها الصحيح من لوازم البقالة والجزارة والخضروات والفاكهة ولكن شريف بك -والده رفض بشدة مطلبه واتهمه بأنه يريد أن يكون وصيًا عليه ويريد أن يخلعه من مسؤولياته كرب للأسرة ؛وواصل شريف بك متهمًا دكتور حازم بأن حماه هو من يحرضه ضد ابيه مع أن الدكتور حازم رد مدافعًا أن حماه هو السبب في نجاحه وهو من اقرضه المال اللازم لفتح العيادة ؛ ولكن دون جدوى؛ ويذهب دكتور حازم ليقدم هدية العيد لخطيبته ناهد ثم يأتي حماه صبري افندى وعندما يعلم الأخير منه انه لم يستطع توفير مالا من راتبه لإتمام الزيجة يهم بفسخ الخطبة -مع انه يرى ان الدكتور حازم زوجًا مناسبًا لابنته المتعلقة به ولكن مع ذلك يرى وضع الدكتور حازم مع أسرته غير موفق ؛ وفجأة وبدون سابق إنذار يفاجئهم شريف بك بالحضور ويتهم صبري افندى بتحريضه ابنه ضده وبعد جدال طويل يتم فسخ الخطبة ورد الشبكة والهدايا الأمر الذي يحزن دكتور حازم حزنًا شديدًا ويتحول حاله ويتبدل ويدخل في حالة اكتئاب وانهيار نفسي مما يجعله يترك عيادته ويفصل من عمله !!
ونعلم من مشاهد المسرحية أنه اصبح يرتاد الخانات ويشرب الخمر بعد أن كان مثالا يحتذي به من الأدب والاخلاق والسيرة والقدوة الحسنة -الأمر كان صادمًا للقارئ -فالتحول للنقيض كان صادمًا غريبًا غير قابل للتصديق بعض الشىء – ونعود لاحداث المسرحية ونرى دكتور حازم يجلس في إحدى الحانات يحتسي الخمر وبصحبته بيومي افندى الذي يحكى له حزن شريف بك على ولده ويأتي صديق دكتور حازم يدعى احمد يحاول أن ينتشل دكتور حازم من الانحدار والتدهور الذي وصل إليه ويحاول أن يقنعه بالعودة للعمل ولبيت ابيه وبالفعل يأتي شريف بك حزينا متأثرا بغياب ابنه دكتور حازم وبالحال الذي وصل إليها- ويعتذر لولده ويحق نفسه ويخبره انه يوافق على أن يتولى هو زمام أمور الأسرة كما كان يتمنى، وانه قد تحدث لصبري افندى للم شمل المحبين -حازم وناهد – خاصة بعد إصابة ناهد بمرض وعضال نتيجة حزنها على فسخ الخطبة وبالفعل يوافق صبري افندى وتعود المياه لمجاريها ويتم الصلح ويعود دكتور حازم لعيادته التي كان قد اهملها-ويتم زواجه بناهد ويتولى هو زمام الأمور في عائلته ويقضى على اسراف وتبذير زوجة أبيه التي قد اعتذرت له عما بدر منها؛ وتتزوج اخته من صديقه الصيدلي احمد وينصلح حال أخيه عباس ويفتح له دكان بقالة ؛ وحتى بعد زواجه من ناهد يظل على عهده بالوفاء لأبيه ولأسرته ويدفع ديون أبيه قبل أن تعرض أرضه للمزاد ؛وينجح في إنقاذ أسرته ويظل ممسكًا بزمام الأمور والمصاريف ويسلم مصروفا شهريا للباشكاتب للصرف منه على مستلزمات والده واسرته ؛ وفي إحدى زيارات والدة ناهد لها ترى ما يحدث من الدكتور حازم من تولي مصاريف أسرته فتضايق ونحاول ان توغر صدر ابنتها نحو زوجها انه بذلك لن يوفر مليمًا في المستقبل له ولناهد لانه يصرف على بيتين؛ وفي نفس المشهد تحضر حكمت هانم زوجة والد دكتور حازم وإخواته البنات وتجدهن يرتدين زينة من الذهب وتعلم منهن أن دكتور حازم قد اشتري لهن بعض من هذا الحلي؛مما يجعلها تستاء وتسخط أكثر وأكثر وتفتعل مشادة معهن بأنهم يستولون على رزق دكتور حازم الذي لن يستطيع توفير قرشًا له ولأسرته ولاطفاله في المستقبل ،ويحضر دكتور حازم الذي يجد الوضع وقد تفاقم وحماته قد تمادت في اتهام أسرته وإخوته بالاستيلاء على أمواله، فيرد عليها أن هذا ليس من شأنها !! وتحرض ابنتها وتأخذها معها بعد افتعال هذه الأزمة والمشادة ،وترضخ لها ابنتها ناهد التي لا يظهر لها موقف او رأي!! وتنصاع لأمها وتترك منزلها !!ويتركون دكتور حازم الذي لم يبدر منه اي شىء يجعلها تترك منزلها ولا يحاول اللحاق بها فهو لم يخطئ في حق أي منهما!! ولكن صبري افندى بعد أن يعرف ما حدث منهن يلوم ابنته وزوجته عما بدر منهما ويطلب من ابنته العودة لمنزلها لأنها أصبحت الآن ضيفة في بيت أبيها وبيتها الآن هو بيت زوجها وليس منزل والدها ويلوم صبري افندى زوجته بشدة ويطلب من زوجته الا تتدخل في حياة ابنتها وأن الدكتور حازم حر في أمواله يصرفها كما يشاء وانه بحق له أن يوجه جزء من ماله وراتبه لمساعدة ابيه وبالفعل يستدعى دكتور حازم للمجىء لأخذ زوجته ناهد وتنتهي المسرحية بالصلح بين الزوجين والعودة لعش الزوجية وهما في قمة السعادة .
المسرحية هى توليفة فنية مباشرة لتقدم لنا حكمة ودرسًا ربانيًا في بر الوالدين (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)؛وأن على الأبن او البنت مراعاة الوالدين خاصة في مرحلة الكبر وتقدم العمر وأن على الابن أن يراعى مصالح والديه واسرته مهما بدر منهما :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24].
كما قدمت لنا المسرحية درسًا هامًا في أهمية انصياع الزوجة لزوجها وأهمية مساعدته في الوفاء ورد الجميل لأهله
قال رسول الله صلى اللعه عليه وسلم :(أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ) رواه أحمد في “المسند” (11/ 503
مسرحية جميلة من زمن جميل تقدم لنا نصائح جميلة عن أهمية بر الوالدين – حتى وان جاءت مباشرة في تقديم المغزى والهدف من العمل الأدبي – إلا أنها توضح كيف أن الأدب لابد أن يكون له رسالة مجتمعية يخدم بها المجتمع وذلك بتقديم أعمالا أدبية وفنية ومسرحية تؤكد على أهمية ووجوب بر الوالدين كما أمرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. ،رحم الله كاتب المسرحية علي احمد باكثير الذي قدم أعمالا أدبية ومسرحية كثيرة مثل واسلاماه ،كما أنه حصل على جائزة الدولة التقديرية مناصفة مع نجيب محفوظ.
وهكذا يكون الأدب وفن المسرح الهادف.
* وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم: 12 – 14].
اترك تعليقاً