الإعاقة مضاعفة مع العيش تحت الاحتلال

بقلم: ريـــــــــــا الجادر

بعد أن توزعت سنوات حياتي في العيش بين عدد من دول العالم وأنا أعاني من إعاقة جسدية فأعتقد أنني أصبحتُ على دراية بمعظم الصعوبات التي يواجهها أي شخص مُعاق. والقضية الرئيسية التي واجهتها في الأماكن التي عشت فيها هي المواقف الاجتماعية التي حرمتني إلى حدٍ كبير من ممارسة حياة طبيعية. ولكن ماذا يحدث عندما لا يقتصر جهدك على محاربة التمييز الاجتماعي فحسب، بل أيضًا عليك مواجهة الاحتلال العسكري؟

لقد ولدت في مدينة الموصل بالعراق، وأمضيت السنوات العشر الأولى من حياتي في مجتمع يميل إلى رفض أي شخص مختلف، ناهيك عن شخص ذي إعاقة. عندما كنت طفلة لم ألتقِ بأي شخص معاق، الأمر الذي جعلني أشعر بأنني حالة خاصة جدًّا، الأمر الذي تعلمت معه أن أعتمد على قوتي الشخصية لمقاومة العزلة والتهميش. وخلال وجودي في الموصل، كانت دولة العراق في حالة حرب مع إيران. وقتها كنت طفلة أعيش بحماية عائلتي، وبوجود حرب اعتقدت أن تجربتي لا تختلف أساسًا عن تجارب بقية الأطفال في العراق. واعتقدت بسذاجة أن نفس الشيء قد ينطبق على أطفال فلسطين، ولكن الواقع كان مختلفًا تمامًا. 

 وأدركت أن المعاقين في بلد جُعِلَ “معاقًا ” من قبل سلطة الاحتلال شيء،والقمع شيء آخر تمامًا.

تقول لطيفة -وهي شابة معاقة من غزة في أواخر العشرينيات من عمرها-: “نحن نعاني ضعف معاناة بقية الشعب في فلسطين”. وقد التقيت بها مؤخرًامع سليمان الذي يبلغ من العمر واحدًا وعشرين عامًا ويعاني من الشلل الدماغي.

فكل من لطيفة وسليمان يتلقون دعمًا من برنامج تديره المعونة الطبية للفلسطينيين يدعى “تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة لاستعادة حقوقهم”. ويهدف البرنامج إلى تحسين نوعية الحياة للفلسطينيين المعاقين، وتعليمهم لتمكينهم من الدفاع عن حقوقهم وتعزيز المواقف الإيجابية تجاههم في المجتمع. 

أما بالنسبة للفلسطينيين المعاقين بشكل عام، فهناك نقص في الأطباء الأخصائيين والكوادر الصحية، في حين أن بيئتهم لا تتكيف إلى حد كبير مع احتياجاتهم؛ مما يجعل المعاقين يميلون إلى الشعور بالعجز والنقص. ويظهر ذلك بشكلٍ خاص عندما يتعلق الأمر بالتعليم. فالأشخاص الذين يعانون من ضعف سمعي لا يحصلون على التعليم الجامعي ويُحْرم المعاقون بصريًّا من بعض التخصصات والشهادات الجامعية.

ويوجد أيضًا داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة تفاوت جغرافي واضح بين الضفة الغربية وغزة. فبالنسبة لغزة تقول لطيفة: “لا توجد كهرباء، والمولدات الكهربائية لا تعمل معظم الأوقات بسبب نقص الوقود؛ وبهذا فأنا مجبرة على استخدام السلالم للصعود إلى الطابق الخامس، وكذلك يجب أن أمشي مسافات طويلة بسبب نقص وقود السيارات”.

خلال حرب عام 2014 كانت المخاطر التي تقع على الأشخاص ذوي الاعاقة أعلى بكثير من بقية الناس، وكما توضح لطيفة فقد (كان من الصعب على المعاقين ترك منازلهم والبحث عن ملجأ أو الانتقال من الطابق العلوي إلى القبو). وبما أن القنابل الاسرائيلية لا تفرق بين المعاق وغير المعاق، فإن هذا الأمر يمثل -وللأسف- المساواة المأساوية التي يمكن أن يتوقعها الأشخاص ذوو الإعاقة.

علاوة على ذلك، ازدياد سكان غزة المعاقين نتيجة للحرب؛ حيثُ تضيف لطيفة: “تخيل أنك تجد نفسك في كرسي متحرك بين عشية وضحاها، أو تفقد أحد أطرافك أو بصرك، ولا تعرف لماذا أو كيف تتكيف مع هذه الإعاقة- كل ذلك لأنك ولدت فلسطينيًّا”. وتقول أيضًا: “إن مشاكل الصحة العقلية تتزايد أيضًا بسبب الاعتداء النفسي الذي يتعرض له الفلسطينيون يوميًّا بسبب الاحتلال الاسرائيلي.

ووفقًا لـ “MAP“، فإن أكثر من سبعة وثمانين بالمائة من الفلسطينيين من ذوي الإعاقة عاطلون عن العمل، وثلثهم لن يتمكنوا أبدًا من الزواج، وأكثر من ثلث الفلسطينيين ذوي الإعاقة لم تتح لهم فرصة التعليم، وأن الكثيرين منهم لا يستخدمون وسائل النقل العام لأنها غير معدلة أو مهيئة لاستخدامهم. وهذه الحواجزتجعل العيش مع الإعاقة صعبة للغاية في ظل الاحتلال.

ويقوم برنامج MAP ​​بتدريب الأشخاص ذوي الإعاقة على كيفية القيام بحملات من أجل الحصول على حقوق معينة، وتحسين الوعي العام بحقيقة أن المعاقين لا يحتاجون إلى الشفقة، بل يحتاجون إلى الدعم والقبول، حتى يتمكنوا من أن يعيشوا حياة أكثر استقلالية وإنتاجية وعطاء.ويسعى البرنامج أيضًا إلى مساعدة المعاقين على القيام بحملات من أجل تكافؤ الفرص والحقوق.

قبل انضمامها إلى البرنامج، رأت لطيفة بأن لديها مشكلة وحاولت أن تتوارى عن الناس، وتنكر إعاقتها وتعيش دون مواجهتها. أما اليوم فهي تعتبر الإعاقة قضية عامة بدلًا من أن تكون مشكلة شخصية، وتؤمن لطيفة بأنه يجب على المجتمع مساعدة الأشخاص ذوي الإعاقة على الاندماج فيه، وأن القوة تكمن في الكثرة ففي حالة توحيد جهود ذوي الإعاقة تكون لديهم فرص أكبر للحصول على حقوقهم. وقد عانى الفلسطينيون منذ سنوات طويلة من العزلة -خاصة في غزة- بسبب الاحتلال؛ مما أدى إلى وجود جهل واسع النطاق بالفرص والتسهيلات المتاحة لذوي الاحتياجات الخاصة. 

ومما يزيد من تفاقم الحالة أوجه التمييز الاجتماعي حسب الجنس، والذي يبدو أكثر وضوحًا في حالة النساء المعاقات. وقد تجلى هذا في قضية أمل، عندما رفضت جدتها التقليد الفلسطيني القديم الذي يمنح الحفيدة اسم الجدة؛ وذلك لأنها ولدت “مشوهة”.

لطيفة تؤكد هذا فهي مقتنعة بأنها تواجه تحيزًا أكثر من إخوتها غير المعاقات، فقالت: “لا يسمح لنا بمغادرة المنزل أو الخروج خوفًا من المضايقات”، وأضافت أن المرأة المعاقة غالبًا ما تعتبر غير مناسبة للزواج؛ لأن المعاقة تمثل “مشكلة” موروثة عبر الأجيال، بالإضافة إلى أن الفتاة المُعاقة غير قادرة على العمل أو القيام بواجباتها؛ لذا لا يمكن اعتبارهاالنموذج الأمثل للزواج”.

ويؤثر هذا التمييز الإضافي حسب الجنس على ارتباط الفلسطينين من ذوي الإعاقة بإعاقتهم، مع وجود فرق واضح بين الجنسين. فسليمان كان صريحًا ومباشرًا ولم يكن لديه أي خوف من أن يقول لي إنه ولد مع الشلل الدماغي، بينما رفضت لطيفة الحديث عن حالتها، ورأت أن المسألة تدخل في خصوصيتها، وأصرت على القول “أنا لطيفة، إنسانة ولا أمثل عنوانًا لحالة”. عندها شعرت بأن لطيفة لم تكن متقبلة تمامًا لإعاقتها.

وعلى الرغم من كل الجهود، فلا تزال فلسطين بعيدة عن إدماج مواطنيها المعاقين في المجتمع. ويعتقد سليمان أن تحريك صخرة كبيرة أسهل من تغيير الأفعال السيئة والمواقف السلبية، وقال: “إن تغيير طباع الناس أصعب بكثير من تعديل المباني وتحويرها”.

 سليمان يعتقد أن الشباب يجب أن يكونوا محور التركيز الرئيسي للمبادرات المستقبلية؛ من أجل تشكيل جيل أكثر استنارة في مواقفه تجاه المعاقين وإمكاناتهم غير المستغلة. سليمان ولطيفة يرغبون في وجود خطط لإيجاد فرص عمل لمساعدة المعاقين على دخول السوق وإثبات أن حالتهم ليست عائقًا، وأضاف سليمان قائلًا: “لا أريد الاعتماد على النشرات. أريد أن أكون قادرًا على القول إنني ساهمت في صنع شيء ما، فنحن لدينا حقوق. وهكذا نحن “.فحين ينظر إليها على أنها قضايا خيرية فهي مهينة لهم.

في نهاية اللقاء، سألت كل من سليمان ولطيفة عن أحلامهم. وكان سليمان-وهو الشخص الأكثر ثقة الذي يتسم بشخصية ساحرة- أول من أجاب قائلًا إنه يرغب في أن يصبح محللًا سياسًّيا، وقال: ” نحتاج إلى أن نعمل ونؤمن بأنفسنا لإقناع الآخرين بمقدرتنا فمثلًا أنا اعمل جاهدًا على تحقيق حلمي بأن أصبح محللًا سياسيًّا”. في حين رفضت لطيفة مشاركتنا طموحاتها معتبرة أنها “مسألة خاصة ” وكوننا معاقين لا يعني أن لدينا أحلامًا مختلفة”.

وقالت: “المجتمع متنوع والتنوع شيء مفيد”. “في النهاية نحن بشر بسطاء، نحب مثلكم، ونبتسم مثلكم، وعندما نُجْرَح، نبكي كما تبكون… أنا أعيش منذ فترة طويلة في سلام لأني لم أعد اُوصف بالإرهابية، وأنا أحلم باليوم الذي لايتم فيه إيقاف الفلسطينيين عند نقاط التفتيش “.

وتذكر لطيفة -في إشارة تحوي مزيدًا من الأمل- أنها عندما دَخَلتْ إسرائيل في طريقها إلى لندن، رأت حافلة إسرائيلية مليئة بالأطفال،”ابتَسَمَتْ، وابتسموا معها، وهذا الموقف يُعزىٰ لسبب بسيط: هو أننا نمتلك شيئًا واحدًا مشتركًا وهو، الإنسانية “.

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *